البلاء حِكمٌ وأسرارٌ وفوائِد

عدنان بن عبد الله القطان

16 شوال 1442 هـ –  28 مايو 2021 م

———————————————————————

الحمد لله الذي ارتضى الحمد لنفسه، ورضي به من خلقه، نحمده على آلائه ونشكره على نعمائه، ونستعينه ونؤمن به ونتوكل عليه، توكل عبد راض بقضائه وصابر على بلائه، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ونشهد أن نبينا محمداً عبده المصطفى ونبيه المجتبى، ورسوله إلى خلقه، وأمينه على وحيه، أرسله بعد انقطاع الرجاء، وطموس العلم، واقتراب من الساعة، فبصّر به من العمى ، وهدى به من الرّدى، صلى الله عليه  وعلى آله وصحبه ، وسلم تسليماً مزيداً .

أمّا بعد: فأوصيكم عباد الله ونفسي بتقوى الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)

معاشر المسلمين: إن الله تعالى جعل هذه الحياة الدنيا دار ممر وامتحان، وجعل فيها البلاء والابتلاء سنة من سننه الربانية الجارية؛ ذلك أن طبيعة الحياة الدنيا، وطبيعة البشر فيها تقتضي ألا يخلو المرء فيها من كوارث ومصائب تصيبه، وشدائد تحل بساحته، فكم منا من يخفق في عمل، ويخيب له أمل، أو يُبتلى بموت حبيب أو عزيز، أو يَمرض له بدن، أو يُفقد منه مالٌ أو ولد، أو يبتلى بإصابته بوباء، أو يُبتلى في قوة تمسكه بدينه أو غير ذلك مما تفيض به الحياة الدنيا من ابتلاءات وشدائد وتمحيصات والابتلاء هو الاختبار والامتحان، والبلاء يكون في الخير والشر، كما قال تعالى: (وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً)، والله عز وجل يبلو عبده بالصنيع الجميل ليمتحن شكره، ويبلوه بالبلوى التي يكرهها ليمتحن صبره. والابتلاء فيه فوائد عظمية تَعُود على المؤمن في دِينه ودُنياه؛ فتتربَّى نفسُه على الصبر، ويقوى بذلك إيمانُه.. والرِّضا بالبلاء يجعل المؤمنَ دائم الاتصال بالله، فهو مُتَّصِلٌ بربه في السراء والضراء وفي جميع أحواله، فتتحوَّل حياتُه إلى عطاءٍ دائم، فلا يعرف الجَزَعَ ولا القنوط؛ ولذا قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: (عَجَباً لأَمْرِ الْمُؤْمِنِ: إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ، وَلَيْسَ ذَاكَ لأَحَدٍ إِلاَّ لِلْمُؤْمِنِ، إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْراً لَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ)..

أيها الأخوة والأخوات في الله: إن للبلاء فوائد عظيمة لو علمها المبتلى لهانت عليه المصائب ورضي ولم يسخط ولم يشتكي من ربه تبارك وتعالى، ومن فوائد البلاء:

أولاً: أنه سبب لمغفرة الخطايا وغسل الذنوب، يقول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِنَّ الْمُسْلِمَ إِذَا مَرِضَ، أَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى إِلَى مَلَائِكَتِهِ فَيَقُولُ: يَا مَلَائِكَتِي: أَنَا قَيَّدْتُ عَبْدِي بِقَيْدٍ مِنْ قُيُودِي، فَإِنْ قَبَضْتُهُ أَغْفِرْ لَهُ، وَإِنْ عَافَيْتُهُ فَجَسَدٌ مَغْفُورٌ لَهُ لَا ذَنْبَ لَهُ) وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مَا يُصِيبُ الْمُسْلِمَ مِنْ نَصَبٍ (أي تعب) وَلَا وَصَبٍ (أي مرض) وَلَا هَمٍّ وَلَا حُزْنٍ وَلَا أَذًى وَلَا غَمٍّ حَتَّى الشَّوْكَةِ يُشَاكُهَا إِلَّا كَفَّرَ اللَّهُ بِهَا مِنْ خَطَايَاهُ) ودخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على أم السائب رضي الله عنها فقال: (مالَكِ يا أمَّ السائبِ تُزَفْزِفينَ (أي ترتعدين)؟ قالت: الحمَّى لا بارك اللهُ فيها، فقال (لا تسُبِّي الحُمَّى فإنها تُذهِبُ خطايا بني آدمَ كما يُذهبُ الكِيرُ خبثَ الحديدِ) وقَالَ صلى الله عليه وسلم: (مَا يَزَالُ البَلاَءُ بالمُؤمِنِ وَالمُؤْمِنَةِ في نفسِهِ ووَلَدِهِ وَمَالِهِ حَتَّى يَلْقَى الله تَعَالَى وَمَا عَلَيهِ خَطِيئَةٌ)

 ثانياً: ومن فوائد البلاء، أن البلاء يرفع العبد الدرجات العالية في جنة الله تعالى، فقد يبتلي الله عباده بالسراء والضراء وبالشدة والرخاء، وقد يبتليهم بها لرفع درجاتهم وإعلاء ذكرهم كما يفعل بالأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام والصلحاء من عباد الله، فعن مصعب بن سعد عن أبيه رضي الله عنه قال: (قلتُ يا رسولَ اللهِ أيُّ النَّاسِ أشدُّ بلاءً قالَ الأَنبياءُ ثمَّ الأَمثلُ فالأَمثلُ  يُبتلَى المرءُ علَى حسَبِ دينِهِ، فإن كانَ في دينِهِ صلباً اشتدَّ بلاؤُهُ، وإن كانَ في دينِهِ رقَّةٌ ابتليَ علَى قدرِ دينِهِ، فما يبرحُ البلاءُ بالعبدِ حتَّى يترُكَهُ يمشي علَى الأرضِ وما علَيهِ خطيئةٌ) فإذا أحب الله تعالى عبداً ابتلاه ليرفع درجته في الجنة، يَقُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ الْعَبْدَ إِذَا سَبَقَتْ لَهُ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مَنْزِلَةٌ لَمْ يَبْلُغْهَا بِعَمَلِهِ، ابْتَلاهُ اللَّهُ فِي جَسَدِهِ أَوْ فِي مَالِهِ أَوْ فِي وَلَدِهِ ثُمَّ صَبَّرَهُ عَلَى ذَلِكَ حَتَّى يُبَلِّغَهُ مَنْزِلَتَهُ الَّتِي سَبَقَتْ لَهُ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ)...

ثالثاً: ومن فوائد البلاء: أن البلاء يعجل العقوبة للعبد في الدنيا لتسقط عنه يوم القيامة، ومما لا شك فيه أنه لا يخلو عبد من ذنب، فمن ذا الذي ما ساء قط، ومن له الحسنى فقط، هنا يأتي البلاء ليرد العبد إلى ربه ويرجع إلى خالقه ويجدد التوبة والعهد مع الله كما جاء في الأثر، (إن الله تعالى يبتلى عبده وهو يحبه ليسمع تضرعه وبكائه) والبلاء يكون بالخير والشر فيبتلي الله عبده ليعجل عقوبته في الدنيا فيطهره بها، والبلاء يحل بالعباد بسبب ذنوبهم، كما قال تعالى: (وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ) قال ابن عباس رضي الله عنهما:يعجل الله للمؤمنين عقوبتهم بذنوبهم ولا يؤاخذون بها في الآخرة) يقول صلى الله عليه وسلم : (إذا أرادَ اللَّهُ بعبدِهِ الخيرَ عجَّلَ لهُ العقوبةَ في الدُّنيا، وإذا أرادَ بعبدِهِ الشَّرَّ أمسَكَ عنهُ بذنبِهِ حتَّى يوافى بهِ يومَ القيامةِ) وصح: أن النَّبِي صلى الله عليه وسلم خَرَجَ يَعُودُ رَجُلاً مِنْ أَصْحَابِهِ مريض فَقَبَضَ عَلَى يَدِهِ، وَوَضَعَ يَدَهُ عَلَى جَبْهَتِهِ، وَكَانَ يَرَى ذَلِكَ مِنْ تَمَامِ عِيَادَةِ الْمَرِيضِ ثُمَّ قَالَ : إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَقُولُ هِىَ نَارِى أُسَلِّطُهَا عَلَى عَبْدِى الْمُؤْمِنِ لِتَكُونَ حَظَّهُ مِنَ النَّارِ فِي الآخِرَةِ )…

 رابعاً :ومن فوائد البلاء، أن الله تعالى ضمن الجنة لأهل البلاء وأعظم لهم الأجر فيها ولم يحدده لهم في الدنيا ليرى منهم الرضا والصبر الجميل، قال الله تعالى (إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ) وقال علي رضي الله عنه: كل مطيع يكال له كيلاً ويوزن له وزناً إلا الصابرون، فإنه يحثى لهم حثياً) وقال أنس بن مالك رضي الله عنه : (يؤتى بأهل البلاء فلا ينصب لهم ميزان ولا ينشر لهم ديوان، ويصب عليهم الأجر صباً بغير حساب)

وعن عطاء بن أبي رباح قال: قال لي ابن عباس رضي الله عنهما:  أَلاَ أُرِيكَ امْرَأَةً مِنْ أَهْلِ الجَنَّةِ ؟ قُلْتُ: بلى، قال : هذه المرأةُ السَّوْداءُ، أتَتِ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فقالتْ إني أُصْرَعُ، وإني أتَكَشَّفُ، فادْعُ اللهَ لي، قال: (إن شِئتِ صبرتِ ولك الجنَّةُ، وإن شِئتِ دعَوتُ اللهَ أن يُعافيَكِ) فقالتْ: أصبِرُ، فقالتْ: إني أتَكَشَّفُ، فادْعُ اللهَ أنْ لا أتَكَشَّفَ، فدَعا لها) وقال رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إذا ماتَ ولَدُ العبدِ قالَ اللَّهُ لملائِكتِهِ: قبضتم ولدَ عبدي، فيقولونَ نعم، فيقولُ قبضتُم ثمرةَ فؤادِهِ، فيقولونَ نعم فيقولُ ماذا قالَ عبدي، فيقولونَ حمِدَكَ واسترجعَ، فيقولُ اللَّهُ ابنوا لعبدي بيتاً في الجنَّةِ وسمُّوهُ بيتَ الحمْدِ) وقال صلى الله عليه وسلم: (يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى مَا لِعَبْدِي الْمُؤْمِنِ عِنْدِي جَزَاءٌ إِذَا قَبَضْتُ صَفِيَّهُ مِنْ أَهْلِ الدُّنْيَا ثُمَّ احْتَسَبَهُ إِلَّا الْجَنَّةُ) وقال صلى الله عليه وسلم: (إنَّ اللَّه تعالى يقول: إِذَا ابْتَلَيْتُ عَبدِي بحبيبتَيْهِ أي عينيه فَصبَرَ عَوَّضْتُهُ مِنْهُمَا الْجنَّةَ)

خامساً: ومن فوائد البلاء، صلاة الله تعالى عليهم ورحمته لهم، وهدايتهم إلى صراطه المستقيم، قال الله تعالى في محكم التنزيل (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ، الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ)

سادساً: ومن فوائدِ البلاء، أنَّ اللهَ  تعالى يكونُ قريباً من المبتلى يرحمُه ويجيبُ دعاءَه ويُثيبُ زوَّارَه والقائمين عليه.. ولذلك تحتفي الملائكةُ بعائدِ المريضِ، بل ويعتبُ سبحانَه على من تركَ عيادة المريض؛ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَا ابْنَ آدَمَ مَرِضْتُ فَلَمْ تَعُدْنِى. قَالَ يَا رَبِّ كَيْفَ أَعُودُكَ وَأَنْتَ رَبُّ الْعَالَمِينَ، قَالَ أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ عَبْدِى فُلاَنًا مَرِضَ فَلَمْ تَعُدْهُ أَمَا عَلِمْتَ أَنَّكَ لَوْ عُدْتَهُ لَوَجَدْتَنِي عِنْدَهُ)

وعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ رضي الله عنه قَالَ: كُنْتُ مَعَ سَلْمَانَ رضي الله عنه وَعَادَ مَرِيضاً  فَلَمَّا

دَخَلَ عَلَيْهِ قَالَ: أَبْشِرْ! فَإِنَّ مَرَضَ الْمُؤْمِنِ يَجْعَلُهُ اللهُ لَهُ كَفَّارَةً وَمُسْتَعْتَباً، وَإِنَّ مَرَضَ الْفَاجِرِ، كَالْبَعِيرِ عَقَلَهُ أَهْلُهُ، ثُمَّ أَرْسَلُوهُ فَلَمْ يَدْرِ لِمَ عَقَلُوهُ، وَلَمْ يَدْرِ لِمَ أَرْسَلُوهُ( والمعنى أن المرض يكون مستعتباً للمؤمن يعني سبباً في محاسبة نفسه، ورجوعه عن الإساءة، ويقظته من غفلته، بخلاف الفاجر وغير المؤمن، فإن مرضه لا ينفعه، وهو لا يزال مصراً على المعصية، ولذلك هو كالبعير الذي أمسكه وربطه أهله ثم أرسلوه فلا يدري لم أمسك ولم أرسل، والعاصي وغير المؤمن إذا مرض لا يدري لماذا مرض وما هي الحكمة من المرض ولا يحتسب أجراً ولا يرجع إلى الله عز وجل، وهنا قد يتبيَّنُ لنا بعض الحِكَم في مرضِ كثيرٍ من المسلمينَ في آخرِ حياتِهم وأن الله يريد بعبدِه المؤمن الخيرَ، فأهلُه بينَ الهمومِ والأحزانِ والقيام على شؤونه مأجورون وهو بمرضه وصبره مأجور ويُهيَّأُ لدخول الجنان، بإذن الله.

سابعاً: ومن فوائد البلاء أنَّ صاحبَه تُكتبْ له جميعُ أعمالِه التي كانَ يَعملُها وهو صحيحٌ.. فتستمرُ حسناتُه على ما كانَ يعملُ وهو مُعافى لا ينقصُ منها شيءٌ. يقول صلى الله عليه وسلم: (إذَا مَرِضَ الْعَبْدُ أَوْ سَافَرَ كُتِبَ لَهُ مِنَ الأَجْرِ مِثْلُ مَا كَانَ يَعْمَلُ صَحِيحًا مُقِيماً) ويقول رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (إِذَا ابْتَلَى اللهُ الْعَبْدَ الْمُسْلِمَ بِبَلَاءٍ فِي جَسَدِهِ، قَالَ اللهُ لِلْمَلَكِ الَّذِي يَكْتُبُ عَمَلَهُ: اكْتُبْ لِعَبْدِي فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ مِثْلَ مَا كَانَ يَعْمَلُ مِنْ الْخَيْرِ مَا دَامَ مَحْبُوساً فِي وَثَاقِي، حَتَّى أَقْبِضَهُ) -أي يموت في مرضه- (أَوْ أُطْلِقَهُ، فَإِنْ شَفَاهُ، غَسَلَهُ وَطَهَّرَهُ، وَإِنْ قَبَضَهُ، غَفَرَ لَهُ وَرَحِمَهُ).

أيها المؤمنون: وإن مما يهون البلاء على المؤمن أن يَعلم أن البلاء خير له إن صَبَر واحتَسَب، يقول صلى الله عليه وسلم: (مَنْ يُرِدِ اللهُ بِهِ خَيْراً يُصِبْ مِنْهُ). وكلّما عظُمَت المصيبة كلّما عظُم الأجر، قال صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ عِظَمَ الْجَزَاءِ مَعَ عِظَمِ الْبَلَاءِ، وَإِنَّ اللهَ إِذَا أَحَبَّ قَوْمًا ابْتَلَاهُمْ، فَمَنْ رَضِيَ فَلَهُ الرِّضَا وَمَنْ سَخِطَ فَلَهُ السُّخْطُ) وينبغي للعبد أن يستشعر الأجر لتهون عليه البلايا.. وأن يحمد ربه عند البلاء، ويسترجع ليخلف الله تعالى له خيراَ مما فقد، وأن يلح على ربه في الدعاء أن يكشف عنه البلاء ويسأل ربه العافية. يقول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (دَعْوَةُ ذِي النُّونِ الَّتِي دَعَا بِهَا فِي بَطْنِ الْحُوتِ، لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ، لَمْ يَدْعُ بِهَا مُسْلِمٌ فِي كُرْبَةٍ إِلَّا اسْتَجَابَ اللهُ لَهُ)

اللَّهُمَّ إِنِّا نعُوذُ بِكَ مِنَ جَهْدِ البَلاَءِ، وَدَرْكِ الشَقَاءِ، وَسُوءِ القَضَاءِ، وَشَمَاتَةَ الأَعْدَاءِ.

اللَّهُمَّ إِنِّا نعُوذُ بِكَ مِنَ زَوَالِ نِعْمَتِكَ، وَتَحَوُّلِ عَافِيَتِكَ، وَفُجَاءَةِ نِقْمَتِكَ، وَجَمِيِعِ سَخَطِكَ.

نفعني الله وإيّاكم بالقرآن العظيم، وبهديِ سيد المرسلين، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيمَ الجليل لي ولكم ولسائرِ المسلمين من كلّ ذنبٍ فاستغفروه، إنّه هو الغفور الرحيم.

 

 

 

الخطبة الثانية

الحمد لله كاشف البلاء مسدي النعماء، نحمده سبحانه لا إله إلا هو المقصود بدفع الضر والبأساء، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ونشهد أن نبينا محمداً عبد الله ورسوله سيد البررة الأتقياء صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

أما بعد فيا أيها المسلمون: شدائد الزمان وصروف الليالي ومحن الأيام وكل ابتلاء يُبْتلى به العبدُ في دنياه هو محكٌّ لإيمان المؤمنين، واختبار لصبر المحتسبين، ووبال على الساخطين، قال تعالى:(وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ) ويتنوع البلاء وتتشكل المحن وتتلون الأرزاء؛ فمن الناس من يُبتلى بفقد الأحبة الذين يكونون له بعد الله عُدةً وأعواناً على الشدة من الآباء والأمهات والأبناء والإخوان والأقربين، والأصدقاء المقربين، ومن الناس من يبتلى بالفقر بعد الغنى، وبالعسر بعد اليسار، وبضنك العيش وقلة الحيلة بعد ناعم الحياة وخفض العيش وبسطة الرزق وسعة التدبير.

ومن الناس من يبتلى بكساد تجارته، أو عصيان أولاده، أو خراب بيته، أو تنكر أهله.

ومن الناس من يبتلى بالأمراض والأوبئة التي تنغِّص عليه عيشه، وتكدِّر عليه صفو حياته، وتقعد به عن بلوغ كثير من آماله، ومنهم من يبتلى بنقيض ذلك من بسطة في المال، وحُظوة في الجاه، ورفعة القدر وسعة النفوذ، والإمداد بمتع الحياة ولذائذها، والتمكن من بلوغ أقصى الغايات فيها كما قال سبحانه: (وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ) أي اختباراً وإمهالا قد يكون استدراجا؛ إن كان من يبتلى بذلك ممن يستعين بنعم الله على معصيته فيترك أمره، ويرتكب نواهيه كما قال سبحانه: (فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُواْ بِمَا أُوتُواْ أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ) وخير ما يفعل المسلم الصادق أمام كل ابتلاء الوقوف موقف الصبر والاحتساب بما قضى الله تعالى؛ فإن الصبر مقام عظيم من مقامات الدين، ومنزل كريم من منازل السالكين، رتب عليه الشرع الثواب الجزيل وضاعف لأهله الحسنات؛ ليحببه إلى القلوب، ويرغب فيه النفوس.

 وإن مما يعزي النفوس يا عباد الله عند نزول الشدائد، ويصرف عنها موجة الألم لفواجعها ونكباتها الأملَ في فرج الله القريب، والثقة في رحمته وعدله؛ إذ هو سبحانه أرحم الراحمين، ومن رحمته لعباده أنه لا يتابع عليهم الشدائدَ، ولا يكرههم بكثرة النوائب، بل يعقب الشدة بالسعة والرخاء، والابتلاء بالرحمة وسابغ النعماء، كما قال عز وجل: (فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا، إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا) وقال صلى الله عليه وسلم: ما قال عبدٌ قطُّ إذا أصابه هَمٌّ أو حُزْنٌ: اللَّهمَّ إنِّي عبدُكَ ابنُ عبدِكَ ابنُ أَمَتِكَ ناصِيَتي بيدِكَ، ماضٍ فيَّ حُكْمُكَ عَدْلٌ فيَّ قضاؤُكَ أسأَلُكَ بكلِّ اسمٍ هو لكَ سمَّيْتَ به نفسَكَ أو أنزَلْتَه في كتابِكَ أو علَّمْتَه أحَدًا مِن خَلْقِكَ أوِ استأثَرْتَ به في عِلمِ الغيبِ عندَكَ أنْ تجعَلَ القُرآنَ ربيعَ قلبي ونورَ بصَري وجِلاءَ حُزْني وذَهابَ همِّي إلَّا أذهَب اللهُ همَّه وأبدَله مكانَ حُزْنِه فرَحاً) قالوا : يا رسولَ اللهِ ينبغي لنا أنْ نتعلَّمَ هذه الكلماتِ؟ قال : (أجَلْ، ينبغي لِمَن سمِعهنَّ أنْ يتعلَّمَهنَّ) فاتقوا الله عباد الله وحذارِ من اليأس من رَوْح الله، واستيقنوا بالفرج القريب من الله الرحيم الرحمن، فما الشدائد والابتلاءات والأوبئة والمحن إلا خطوةٌ على الطريق إلى تحسين الأحوال، وقفزةٌ إلى رخي العيش وبلوغ الآمال، مع ما فيها من تمحيص وتكفير للسيئات، ورفع للدرجات.

ربنا مسنا الضر وأنت أرحم الراحمين، اللهم أرفع وادفع وأبعد عنا البلاء والوباء وأدم علينا وعلى أهلنا وبلادنا وعلى المسلمين وعلى العالمين، نعمة الصحة والعافية.

 اللهم أكشف الغمة عن هذه الأمة ياذا الفضل والعطاء والمنة. اللهم يا عالم كل خفية ويا صارف كل بلية، اصرف عنا مانحن فيه من البلاء والوباء بألطافك الخفية، اللهم اجعل ما أصابنا من هذه الجائحة تكفيراً لسيئاتنا، ورفعة في درجاتنا، واجمع لنا فيها بين الأجر والعافية، وأدفع عنا أسباب سخطك، وموجبات غضبك، ويسر لنا دروب مرضاتك، وسبل رحمتك وجناتك، ومُنَ بالشفاءِ والعافيةِ على المصابين بهذا بالوباء، وارحم المتوفين به واكتبهم من الشهداء عندك، وألهم أهلهم ومحبيهم، الصبر والسلوان برحمتك يا أرحم الراحمين.

اللهم آمنا في وطننا وفي خليجنا واجعل هذا البلد آمناً مطمئناً سخاءً رخاءً وسائر بلاد المسلمين.. اللهم وفق ولاة أمورنا وفق ملكنا حمد بن عيسى وولي عهده رئيس وزرائه سلمان بن حمد اللهم وفقهم لما تحب وترضى، وخذ بنواصيهم للبر والتقوى وهيئ لهم البطانة الصالحة الناصحة يارب العالمين.

اللهم وفِّق المسئولين في فريق البحرين الوطني ورجال جيشنا وأمننا، وصحتنا وإعلامنا وجميع المتطوعين، اللهم اجزهم خير الجزاء وأوفاه، على ما قدموا للبلاد والعباد، يا ذا الجلال والإكرام…اللهم كن لإخواننا المستضعفين المظلومين في كل مكان ناصراً ومؤيداً، اللهم أحفظ بيت المقدس والمسجد الأقصى، وأحفظ أهله، وأحفظ المصلين فيه،  واجعله شامخاً عزيزاً عامراً بالطاعة والعبادة إلى يوم الدين.

اللهم اغفر ذنوبنا، واستر عيوبنا، ونفس كروبنا، وعاف مبتلانا، واشف مرضانا، واشف مرضانا، وارحم موتانا، وارحم موتانا،  برحمتك يا أرحم الراحمين.

الْلَّهُمَّ صَلِّ وَسَلَّمَ وَزِدْ وَبَارِكَ عَلَىَ سَيِّدِنَا وَنَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَىَ آَلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِيْنَ. (سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ  وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)

           خطبة جامع الفاتح الإسلامي – عدنان بن عبد الله القطان – مملكة البحرين